نظرية كنت متأكد
- psychotopia
- Dec 20, 2018
- 3 min read
Updated: Dec 29, 2018
بقلم : مي محسن
أُجريت دراسة ما أثناء الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة عام 2004، وتضمَّنت مُشاركين لديهم مشاعر قوية تجاه المرشَّحِين، وعُرضَت عليهم أزواج من التصريحات المتناقِضة سواءً للمرشَّح الجمهوري "جورج بوش"، أو المرشَّح الديمقراطي "جون كيري"، وتضمنت التصريحات أفكارًا متناقضة، فالأفكار التي كان يطرحها المرشح الديمقراطي لا تنطبق على أفعاله، وكذلك المرشح الجمهوري، ومن ثم سُئِل الفريقان عما إذا كانت تلك التصريحات متناغمة مع بعضها البعض أم لا، وكان ترجيح كل فريق أن تصريحات المرشح الذي يعارضونه كانت متناقضة، بينما لم يروا أي تناقض في تصريحات المرشح الذي يؤيدونه! وفي تلك التجربة كان يتم تصوير أدمغة المشاركين بواسطة الرنين المغناطيسي، وتبين أنهم عند إصدار أحكامهم لم يحدث أي تغيير في الأجزاء المسؤولة عن التفكير والتحليل المنطقي، بينما مراكز العاطفة كانت في أوج نشاطها، فاستنتجت التجارب أن ردود أفعال المشاركين لم تتأثر بمجرد خطأ في التفكير، بل لم يفكروا من الأساس، وإنما تغاضوا عاطفيًّا عن التصرفات اللاعقلانية لمرشحهم المفضل، وصبوا تركيزهم على مغالطات المرشح الآخر.
ما أوضحته تلك التجربة هو أن الأشخاص عادةً ما يميلون للأدلة التي تدعم أفكارهم وأيدولوجياتهم، وتخدم مصالحهم ومعتقداتهم، بغض النظر عما إذا كانت منطقية أم لا، وهذا هو ما نطلق عليه اسم "الانحياز التأكيدي".
من الطبيعي أنه عند اتخاذ قرار ما فإنك تبدأ بمحطة البحث، فيقلع قطارك وينطلق ليقف في كل محطة ليجمع الركاب، والركاب هنا هم وجهات النظر (المختلفة) والمتضادة أحيانًا، ومن ثم تذهب إلى مرحلة النظر إلى كل رأي وفكرة على حدة وبشكل حيادي، لتتبنى أنت تبعًا لذلك فكرتك التي تؤمن بها من بعد بحث، وتصل لوجهتك التي قصدتها، لكن الانحياز التأكيدي يقلب الأمر رأسًا على عقب، فبدلًا من البحث عن كل المعلومات تتجه للبحث عن معلوماتٍ بعينها! مثل أدلة لتثبت وجهة نظرٍ أنت متبنيها بالفعل، أو كأن تقتنع في قرارة نفسك أن شرب الخمر مُباح مثلًا فتبدأ بالبحث على شكل "هل الخمر مباح؟" بدلًا من البحث عن "هل شرب الخمر مُحرم؟" رغم أن الإجابة واحدة في كلا السؤالين، لكن الأول سيأتي لك بالنتائج الإيجابية التي تدعم قرارك أكثر من نظيره.
وحتى عند البحث بشكل حيادي، يمكن أن تبدأ ذاكرتك في استرجاع المعلومات التي جمعتها تبعًا لما يتوافق مع معتقدك أنت فيما يسمى بـ"الذاكرة الانحيازية"، ففي دراسة لجامعة مينيسوتا تم طرح ملف للقراءة يحوي نبذة عن حياة سيدة قامت بإنجاز أعمال تدل أنها شخصية انطوائية، وأعمال أخرى منفتحة، ثم طُلِب من المشاركين في التجربة أن ينصرفوا ويعودوا بعد أيام، وعند عودتهم تم تقسيمهم إلى مجموعات، ثم تم سؤال كل مجموعة عن الوظيفة التي تناسب تلك المرأة، وكان السؤال الذي تم توجهيه لكل مجموعة مختلف عن الآخر، فكان سؤال المجموعة "أ" عما إذا كانت تناسبها وظيفة أمين مكتبة أم لا؟ وكان سؤال مجموعة "ب" عما إذا كانت تناسبها وظيفة بائع عقارات؟ تذكرت المجموعة "أ" ما يدعم السؤال، حيث تذكروا كل الأعمال التي قامت بها ودلت أنها شخصية انطوائية ليست بحاجة للاحتكاك بالناس ووافقوا على مناسبة الوظيفة لها، وتذكرت المجموعة "ب" كل الأعمال التي قامت بها، وأفادت بأنها شخصية منفتحة يمكنها أن تعمل بوظيفة بائع العقارات، وعندما سُئلت كل مجموعة بعدها عن الوظيفة الأخرى، أكدوا أنها لن تناسبها أبدًا، وتمسكت كل مجموعة بالنتيجة التي خرجت بها سابقًا، ما حدث هنا هو أن كل مجموعة قامت بعمل إزاحة للذكريات التي تدحض النتيجة التي خرجوا بها، وركزوا أكثر على الذكريات التي تؤكد صحة نتائجهم.
يقول البروفيسور Shahram Heshmat "إن الانحياز التأكيدي هو نتاج من تأثير الرغبة على المعتقد، فالرغبة والغرور الداخلي للإنسان يجعلانه يتصور أن ما يعتقده هو الصواب دائمًا، ولكي يتكيف مع الأمر يبدأ في جمع الأدلة على ذلك".
ولهذا نتاج بالطبع، كالاستمرار في الإيمان بموروثات ومعتقدات بالية لا أساس لها دون عناء البحث، وكالتضارب الشديد في آراء الفرد، ومن ثم التضارب في المواقف أيضًا، والتحايل على الواقع ومحاولة ربط أحداث ببعضها بينما يوجد صلة بينهم في الأصل، وتحدث المصيبة الكبرى حين يؤثر الأمر على أحد الأفراد المثقفين ممن لديهم قاعدة عريضة من المتابعين، حين يقدم لهم الأدلة التي تثبت منطقه، فيثقون بها دون البحث عن نقيضها، ودون ترك أي مجال للشك في مصداقيتها، ليتحول الأمر من مجرد انحياز فردي إلى ما يمكننا أن نطلق عليه "سيكولوجية القطيع"، ومن هنا تبدأ سلسلة الانهيار الفكري والحضاري للشعوب.
إن كل ما تحتاجه يكمن في الآتي : تخلص من "مرض الأنا"، فلا يوجد مشكلة إن كنا مخطئين، أخبر نفسك أنك لا تملك الحقيقة أنت هنا للبحث عنها، لا لأنها بداخلك منذ ولادتك، ولن تصل لها وأنت لا تلتفت سوى لإعلاء صورتك الذاتية، اطرح أسئلة تخدم المصالح الإيجابية فلا تسأل "هل ما فعلته جيدًا؟" بل اسأل "ماذا أيضًا لأجعل ما فعلته أفضل؟"، كن منفتحًا لتلقي المعلومات المختلفة من كل الثقافات والمعتقدات، وتحلى بالشجاعة لتحليلها، وثق بقدرة عقلك على الاستنباط، واعلم أن العائق الوحيد الذي سيمنعك عن الوصول هو فقط يكمن في خيالك الذي يمرضك بقصر النظر، ويمنعك عن رؤية البدائل، وأن كل ما تبحث عنه وتستقبله حتمًا له دليل يثبت صحته، لذا حاول أن تبحث معه عما يخبرك أنه خطأ... وأعمِل عقلك تصل!
المصادر
Baron، Jonathan : Thinking and deciding
Fine، Cordelia : A Mind of its Own: how your brain distorts and deceivesFriedrich، James :Primary error detection and minimization (PEDMIN) strategies in social cognition: a reinterpretation of confirmation bias phenomena"Horrobin، David F: "The philosophical basis of peer review and the suppression of innovation"
Comments