أين ذهب الواحد من مائة
- psychotopia
- Nov 4, 2018
- 6 min read
"احرص على عدم الخلط بين التميز والكمال، فالتميز استطيع الوصول له ، اما الكمال فهو من عمل الله "
الممثل الأمريكي مايكل جي فوكس
"لا تخف من الكمال .. فلن تصل له أبدا "
الرسام الاسباني المشهور سلفادور دالي
بقلم : مى محسن
تقول فريدة : لقد كنت دائما الأفضل .. كنت الفتاه المثالية في كل شيء.. خاصة في مدرستي .. كنت أشعر أني لابد أن أنافس الجميع لأصبح بمثابة المرأة الحديدية.. وإلا ماذا سأكون؟! فلابد أن يشير الجميع إلي ويقول "هذه فريدة " حتى بالمنزل كنت أود دائما أن يرى أبي وأمي كم أن " فريدة " مجتهدة .. وكم تتفوق ابنتنا على بقية أفراد العائلة ..بم فيهم اخوتي كأني أعتبرت أن حب أمي وأبي جائزة لابد أن احوذها وأحل في المرتبة الأولى أيضا .. وكلما زاد عمري درجة .. أصعد أنا في وهمي درجة ..! بطبيعة الحال ستزداد تطلعاتي كلما كبرت .. المشكلة أن تمسكي بتلك الصورة المثالية كان يكبر معي .. كنت أود الحصول على كل شيء .. صداقات ممتازة .. شريك حياة رائع .. عمل مرموق .. حياه لا ينقصها شيء .. أنظر اليها كل يوم وأشعر بالرضا .. ولا أحتاج لبذل الجهد لأخبر أحد بمن أكون أنا .. فالجميع يعلم قصة كفاحي ..ويشير إلى قائلا " ,تلك, فريدة " لذا ولتحقيق تلك التطلعات علي أن أسيطرعلى كل شيء .. على الأمور ألا تنفلت من بين يدي لكن ما هذا الذي أشعر به .. لم هذا الشعور المستمر بالقلق .. لم كل هذا الاحتراق والألم النفسي الذي أشعر به .. لم أشعر بهذا الكم من التشتت الذي يعصف بذهني وكأن هناك حرب قائمة داخل رأسي تنهشها من الداخل .. لم كل هذا الجلد ؟!" ثم تستطرد قائلة : " أود أن آخذك معي برحلة داخل هذا الرأس الذي أملكه لكن في الحقيقة أنا لا أملك سوى شيء واحد برأسي ركن خاص يحوي كلمتين " الأبيض ونظيره الأسود " أطبقه في جل أمري .. في الواقع أمري كله أيضا واحد ..ينحصر في كلمتين " النجاح .. ونظيره الفشل " لكن وبرغم ذلك .. لا أعلم مصدر هذا الزحام الذي أشعر أنه يملؤني .. حتى أكاد أنفجر..! على كل أنا بالفعل أحقق الكثير في حياتي ..لكن عندما أشار أحدهم مرة إلي قائلا لغيره أن " هذه فريدة " فجأة لم أشعر أني هي ..وكأنني وددت أن أقول لا أنا لست فريدة ! صدقا لا أعلم ما يحدث معي "
بتلك السطور بدأت فريدة قصتها .. وربما قصتك أنت أيضا .. قصة البحث عن الكمال " Perfectionism"
يقول "سارتر " : “عرفنا كل شيء في الحياة إلا كيف نعيشها” فهو يعتقد أن الإنسان قبل أن يعي حريته ويبدأ في ممارستها فهو أبعد عن كونه كائنا حيا أكثر من بعده عن كونه " أحد الأشياء " وأن حرية الإنسان تبدأ حين يتحرر من القيود التي يخنق بها عنقه والتي تخضع لمعايير الناس ولا دخل لها بمعاييره الشخصية !
ويرى علماء النفس أن السعي وراء الكمال يمكن توصيفه كونه " إدمان " حيث يلهث الفرد تجاه إنجازات مختلفه في مجالات عدة يود تحقيقها بأي ثمن ، فينسون في ذاك السعي عيش حياتهم ز
إن هذا السعي للكمال على عكس المتوقع ربما يكون عدوا للإنتاجية ؛ فالكفائة تتطلب التركيز، وحين تصبح شديد التركيز على كل شيء لتحقق كل شيء بالتأكيد لن تصل لما يرضيك في أي شيء.
يقول توماس كوران عالم النفس الاجتماعي :
الكمال هو مزيجٌ من معايير شخصية عالية بشكل مفرط، وسلسلة تقييمات شديدة للذات
ويرى كوران أن السعي للكمال ينقسم إلى ثلاث أنواع : المتمحور حول الذات: حيث يفرض الفرد توقعات ويرسم صورة مفرطة في المثالية عن نفسه.
الموجه للآخرين : وهنا يفرض المتطلع للكمال معايير الكمال على غيره فينتقده بقسوة ويدفعه للخوض في معارك لا تخصه ليصبح متوافقا مع معاييره هو .. كالأهل الذين يفرضون على أبنائهم تطلعات وطموحات تفوق مقدار سعيهم .. فنجد الإبن ينطلق بأقصى سرعته للفوز بالسباق .. دون إرادة منه لذلك فتصبح أقصى سرعته غير كافية لهكذا سباق أقيم في بداية الأمر ضد رغبته هو .. فيصبح غير راضي عن أي إنجاز إستطاع تحقيقه .. ويقبع في جحيم مظلم .
المحدد من قبل المجتمع: الذي يوصف كونه : نقد موّجه من الآخرين .. حيث يعتقد المرء أنه يجب أن يصبح على درجة عالية من الكمال ليتقبله المجتمع وليكف عن الحكم عليه ، و وجد أن النوع المحدد من قبل المجتمع هو الأكثر إرتفاعا بنسبة 33 % ما بين عامي 1989 إلى عام 2016 ويرى كوران أن انتشار مواقع التواصل الأجتماعي لها دور فعال في أزدياد تلك النسبة .. حيث يستطيع أي شخص بها أن يجمل صورته الذاتيه ليصدر صورة مثالية عن نفسه ..فيسعى هو والمتلقي للوصول لتلك الصورة بل الأفضل منها .. ويبدأ سباق الركض ..
إن التوازن في القرار هنا يتعلق بكيفية تحديد الوقت والجهد اللازمين لإنجاز الأولويات مع تخصيص وقت كاف للراحة ما بين الأشواط ...ولا يحتسب هذا كونه وقتاً ضائعاً، بل يعد أمرا مهماً لالتقاط الأنفاس ..
فالبحث عن اكتمال كل أركان الحياة ووصول كل ركن إلى أعلى التوقعات يعد ضربا من الجنون !!
هذا ليس طموحا عاديا .. إنما طموحا مرضيا..
فمعضلة الكمالييون أن الإخفاق لديهم يساوي الفشل .. وعدم تحقيق الصورة المثلى من الشيء تساوي سلسلة عنيفة من جلد الذات والاحتراق النفسي مدى الحياة !.
هذا ويتوارى وراء هذا السعي للمثالية .. مشاعر دفينة من القلق والخوف الدائم .. الخوف من الفشل الخوف من الأخفاق ..الخوف من الحياة ذاتها حتى لا يشغلنا اللهو بها عن مواصلتها بالشكل المطلوب ! لكن أين الحياة بكل هذا ؟! فعادة ما يدفعك هذا السعي إلى التراجع في كل أمرك .. فحرصك الشديد لإنجاز كل شيء بشكل مثالي قد يدفعك إلى المماطلة به : "فأنا الآن لست جيد بما يكفي لإنجاز هكذا أمر " " لست على أتم الأستعداد لتلك المهمة الكبيرة " " اليوم لم يمر بشكل جيد .. لا أعتقد أنه مثالي بم يكفي للبدء بهكذا مهمة " تسويف .. تسويف .. وتسويف ..محاولات مملة ومقيتة للإهتمام بأدق التفاصيل لخلق بيئة مثالية بوسعها أن تحتمل مهمة مثالية لتحقيق حياة مثالية ! محاولات بإمكانها أن تفقدك كل شغفك بكل ما تحب ..فقط لأنك تنغمس بمثالية التجربة .ظنا منك أنها حتما تؤدي لمثالية النتائج ويتحول كل ماهو جميل إلى هم ثقيل ..يؤرقك بدلا من أن يخفف عنك ويدفعك لمزيد من الحماس!
ليصل الأمر أحيانا إلى المبالغة في توصيف مشاعرك للوصول لحالة مثالية من الصحة النفسية ! فتخبر نفسك طوال الوقت أنك لابد أن تظل جيدا ..ايجابيا ..مساعدا ..داعما.. مبتسما .. مستمعا .. لا يجب أن يصيبك الفتور والإحباط ... لكن كل تلك الأمور تصيبك بالطبع ! فتسقط في بؤرة مظلمة من اليأس والشعور بالفشل .. وتحاول الخروج منها بإنكار تلك المشاعر وإزاحتها بعيدا كأنك تنفر من مجرد شعورك باليأس وترى أنه أمر لا يصح ! فأين المثالية بشخص يائس بائس .. فتزيد من جهدك وسعيك لتصبح على قدر الصورة المرسومة بخيالاتك .. فأنت الآن غير جيد بما يكفي .. وهكذا ترى حالك ..فيكون سؤالك التالي "إذا فكيف يراني الناس؟ " في الواقع أنت تعي جيدا أن الكمال وهم لا يمكن تحصيله لكن وبالرغم من ذلك تستهلك وقتك وجهدك كله لمحاولة أن تصبح"السوبر هيرو" لا لأنك تميل للكمال بالفعل لكن لتحتمي من آلام اللوم والقاء الأحكام التي ربما تصدر بحقك من أحدهم أنت بحاجة لحفنة من التقدير والإهتمام لا اللوم والإنتقاد .. وربما ترى أنك غير جدير بما يكفي لإستحقاق هذا الحب لكنك تنسى أنك اذا اردت ان تشعر بالحب والانتماء فيجب أن تدرك أنك تستحقه ومن ثم لا تنسى أن أول من يمكنه أن يمنحك هذا الشعور هو أنت بذاتك .! لا يجب أن يصبح حبك لذاتك وتقديرك لها مشروطا بأي شيء .. لا يجب أن يصبح قبولك لذاتك منوطا بإنجازاتك.
إن الأنتقال من موقع " ماذا يقول عني الناس " إلى موقع " هكذا أكون أنا " يحتاج إلى خطوات عديدة لتقلع طائرتك وتبدأ رحلتك عليك أولا أن تتحلى بالشجاعة.. وليس هناك أصعب من شجاعة الإعتراف .. إعترف أمام نفسك بعدم كمالك أولا .. وبإستحالة وصولك للكمال ثانيا .. ليس لمنقصة بك ..لكن لإستحالة وجود هذا الشخص المثالي الذي تبحث عنه !! ثانيا : حاول التركيز على ما ترغب به أنت .. لا ما تعتقد أن الآخرين يودون منك تحقيقه ..فتصرف كما يملي عليك عقلك ... ثالثا : حاول أن تدرك الفرق بين نتاج عملك وبين حكم الآخرين عليه .. فالنتاج يخصك أنت ..ولا بد أن يخضع لمعاييرك أنت معاييرك الحقيقية .. رابعا وأخيرا : تعرف على أخطائك وتقبلها ولا تقارن نفسك بالآخرين ..
لن ندعي أن هذا الإنتقال أمر هين ..لكن لنفكر معا .. ما هو الأكثر صعوبة ؟ هل استغناءك عن رغبات الناس بك أم استغنائك عن رغباتك الشخصية وما تكونه بالفعل ؟ وحاول أن تدرك أن ما حققته وما مررت به وإن كان بسيطا في رأيك .. فهو مدعى فخر .. لا تتعجل الوصول للنهايات ..فالإستمتاع بالرحلة ذاتها سيغنيك عن السؤال عن مثالية نتاجها .. عش تجربتك الشخصية ..وقدر كل لحظة تعيشها .. أدرك أن لنفسك عليك حق ..وأولى الحقوق هي الإستماع لها وترك منتفس لها لتعبر عن ذاتها
ولا تسعى للكمال .. فلست مدركه.
المصادر :
Stoeber, Joachim; Childs, Julian H. (2010). "The Assessment of Self-Oriented and Socially Prescribed Perfectionism: Subscales Make a Difference". Journal of Personality Assessment.
Flett, G. L.; Hewitt, P. L. (2002). Perfectionism. Washington, DC: American Psychological Association.
Frost, R. O.; Heimburg, R. G.; Holt, C. S.; Mattia, J. I.; Neubauer, A. A. (1993). "A comparison of two measures of perfectionism". Personality and Individual Differences
Hewitt, P.; Flett, G. (1991). "Dimensions of Perfectionism in Unipolar Depression"(PDF). Journal of Abnormal Psychology.
Slaney, R.B.; Rice, K.G.; Mobley, M.; Trippi, J.; Ashby, J.S. (2001). "The Revised Almost Perfect Scale". Measurement and Evaluation in Counseling and Development.
Comments